فصل: تفسير الآية رقم (17):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (15):

{وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)}
{وسلام عَلَيْهِ} قال الطبري: أمان من الله تعالى عليه {يَوْمَ وُلِدَ} من أن يناله الشيطان بما ينال به بني آدم {وَيَوْمَ يَمُوتُ} من وحشة فراق الدنيا وهو المطلع وعذاب القبر، وفيه دليل على أنه يقال للمقتول ميت بناء على أنه عليه السلام قتل لبغي من بغايا بني إسرائيل {وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًا} من هول القيامة وعذاب النار. وجيء بالحال للتأكيد، وقيل للإشارة إلى أن البعث جسماني لا روحاني، وقيل للتنبيه على أنه عليه السلام من الشهداء.
وقال ابن عطية: الأظهر أن المراد بالسلام التحية المتعارفة والتشريف بها لكونها من الله تعالى في الماطن التي فيها العبد في غاية الضعف والحاجة وقلة الحيلة والفقر إلى الله عز وجل، وجاء في خبر رواه أحمد في الزهد وغيره عن الحسن أن عيسى. ويحيى عليهما السلام التقيا وهما ابنا الخالة فقال يحيى لعيسى: ادع الله تعالى لي فأنت خير مني فقال له عيسى: بل أنت ادع لي فأنت خير مني سلم الله تعالى عليك وإنما سلمت على نفسي.
وهذه الجملة كما قال الطيبي عطف من حيث المعنى على {ءاتيناه الحكم} [مريم: 12] كأنه قيل وآتيناه الحكم صبيًا وكذا وكذا وسلمناه أو سلمنا عليه في تلك المواطن فعدل إلى الجملة الاسمية لإرادة الدوام والثبوت وهي كالخاتمة للكلام السابق. ومن ثم شرع في قصة أخرى وذلك قوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (16):

{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16)}
{واذكر فِي الكتاب} إلخ فهو كلام مستأنف خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم وأمر عليه الصلاة والسلام بذكر قصة مريم إثر قصة زكريا عليه السلام لما بينهما من كمال الاشتباك والمناسبة. والمراد بالكتاب عند بعض المحققين السورة الكريمة لا القرآن كما عليه الكثير إذ هي التي صدرت بقصة زكريا عليه السلام المستتبعة لقصتها وقصص الأنبياء عليهم السلام المذكورين فيها أي واذكر للناس فيها {مَرْيَمَ} أي نبأها فإن الذكر لا يتعلق بالاعيان.
وقوله تعالى: {إِذِ انتبذت} ظرف لذلك المضاف لكن لا على أن يكون المأمور به ذكر نبئها عند انتباذها فقط بل كل ماعطف عليه وحكى بعده بطريق الاستئناف داخل في حيز الظرف متمم للبناء وجعله أبو حيان ظرفًا لفعل محذوف أي واذكر مريم وما جرى لها إذ انتبذت وما ذكرناه أولى. وقيل: هو ظرف لمحذوف وقع حالًا من ذلك المضاف، وقيل: بدل اشتمال من مريم لأن الأحيان مشتملة على ما فيها وفيه تفخيم لقصتها العجيبة.
وتعقبه أبو البقاء بأن الزمان إذا لم يقع حالًا من الجثة ولا خبرًا عنها ولا صفة لها لم يكن بدلًا منها. ورد بأنه لا يلزم من عدم صحة ما ذكر عدم صحة البدلية ألا ترى سلب زيد ثوبه كيف صح فيه البدلية مع عدم صحة ما ذكر في البدل وكون ذلك حال الزمان فقذ غير بين ولا مبين. وقيل: بدل كل من كل على أن المراد ريم قصتها وبالظرف الواقع فيه وفيه بعد. وقيل: {إِذَا} عنى أن المصدرية كما في قوله لا أكرمتك إذ لم تكرمني أي لأن لم تكرمني أي لعدم إكرامك لي. وهذا قول ضعيف للنحاة. والظاهر أنها ظرفية أو تعليلية إن قلنا به ويتعين على ذلك بدل الاشتمال. والانتباذ الاعتزال والانفراد.
وقال الراغب يقال: انتبذ فلان اعتزل اعتزال من تقل مبالاته بنفسه فيما بين الناس. والنبذ: إلقاء الشيء وطرحه لقلة الاعتداد به.
وقوله تعالى: {مّنْ أَهْلِهَا} متعلق بانتبذت، وقوله سبحانه: {مَكَانًا شَرْقِيًا} قيل نصب على الظرف، وقيل مفعول به لانتبذت باعتبار ما في ضمنه من معنى الاتيان المترتب وجودًا واعتبارًا على أصل معناه العامل في الجار والمجرور وهو السر في تأخيره عنه. واختاره بعض المحققين أي اعتزلت وانفردت من أهلها وأتت مكانًا شرقيًا من بيت المقدس أو من دارها لتتخلى هناك للعبادة، وقيل قعدت في مشرفة لتغتسل من الحيض محتجبة بحائط أو بجبل على ما روي عن ابن عباس أبو بثوب على ما قيل وذلك قوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (17):

{فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17)}
{فاتخذت مِن دُونِهِم حِجَابًا} وكونه شرقيًا كان أمرًا اتفاقيًا.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أن أهل الكتاب كتب عليهم الصلاة إلى البيت والحج إليه وما صرفهم عنه إلا قيل ربك {انتبذت مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًا} [مريم: 16] فلذلك صلوا قبل مطلع الشمس، وفي رواية إنما اتخذت النصارى المشرق قبلة لأن مريم انتبذت من أهلها مكانًا شرقيًا، وقد قدمنا عن بعض أنهم كانوا في زمن عيسى عليه السلام يستقبلون بيت المقدس وإنهم ما استقبلوا الشرق إلا بعد رفعه عليه السلام زاعمين أنه ظهر لبعض كبارهم فأمره بذلك، وجوز أن يكون اختاره الله تعالى لها مطلع الأنوار. وقد علم سبحانه أنه حان ظهور النور العيسوي منها فناسب أن يكون ظهور النور المعنوي في جهة ظهور النور الحسي وهو كما ترى، وروى أنه كان موضعها في المسجد فإذا حاضت تحولت إلى بيت خالتها وإذا طهرت عادت إلى المسجد فبينما هي في مغتسلها أتاها الملك عليه السلام في صورة شاب أمرد وضيء الوجه جعد الشعر، وذلك قوله عز وجل: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا} أي جبرائيل عليه السلام كما قاله الأكثر، وعبر عنه بذلك لأن الدين يحيا به وبوحيه فهو مجاز. والإضافة للتشريف كبيت الله تعالى.
وجوز أن يكون ذلك كما تقول لحبيبك أنت روحي محبة له وتقريبًا فهو مجاز أيضًا إلا أنه مخالف للأول في الوجه والتشريف عليه في جعله روحًا. وقال أبو مسلم: المراد من الروح عيسى عليه السلام لقوله تعالى: {وَرُوحٌ مّنْهُ} [النساء: 171] وضمير تمثل الآتي للملك وليس بشيء. وقرأ أبو حيوة. وسهل {رُوحَنَا} بفتح الراء، والمراد به جبريل عليه السلام أيضًا لأنه سبب لما فيه روح العباد وإصابة الروح عند الله تعالى الذي هو عدة المقربين في قوله تعالى: {فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ المقربين فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ} [الواقعة: 88، 89] أو لأنه عليه السلام من المقربين وهم الموعودون بالروح أي مقربا أو ذا روحنا.
وذكر النقاش أنه قرئ {رُوحَنَا} بتشديد النون اسم ملك من الملائكة عليهم السلام {فَتَمَثَّلَ لَهَا} مشتق من المثال وأصله أن يتكلف أن يكون مثال الشيء، والمراد فتصور لها {بَشَرًا سَوِيًّا} سوى الخلق كامل البنية لم يفقد من حسان نعوت الآدمية شيئًا، وقيل تمثل في صورة قريب لها اسمه يوسف من خدم بيت المقدس وذلك لتستأنس بكلامه وتتلقى منه ما يلقى إليها من كلماته إذ لو بدا لها على الصورة الملكية لنفرت منه ولم تستطع مفاوضته، وما قيل من أن ذلك لتهيج شهوتها فتنحدر نطفتها إلى رحمها فمع مافيه من الهجنة التي ينبغي أن تنزه مريم عنها يكذبه قوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (18):

{قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18)}
{قَالَتْ إِنّى أَعُوذُ بالرحمن مِنكَ} فإنه شاهد عدل بأنه لم يخطر ببالها شائبة ميل ما إليه فضلًا عن الحالة المترتبة على أقصى مراتب الميل والشهوة، نعم كان تمثله على ذلك الحسن الفائق والجمال الرائق لأن عادة الملك إذا تمثل أن يتمثل بصورة بشر جميل كما كان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم في صورة دحية رضي الله تعالى عنه أولًا بتلائها وسبر عفتها ولقد ظهر منها من الورع والعفاف ما لا غاية وراءه وإرادة القائل أنه وقع كذلك لكيون مظنة لماذكر فيظهر خلافه فيكون أقوى في نزاهتها بعيد جدًا عن كلامه.
وقال بعض المتأخرين: إن استعاذتها بالله تعالى تنبئ عن تهييج شهوتها وميلانها إليه ميلًا طبيعيًا على ما قال تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام {وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنّى كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ} [يوسف: 33] فقد قيل: المراد بالصبوة فيه الميل قتضى الطبيعة وحكم القوة الشهوية ثم أنه لا ينافي عفتها بل يحققها لكونه طبيعيًا اضطراريًا غير داخل تحت التكلف كما قيل في قوله تعالى: {وَهُمَّ بِهَا} [يوسف: 24] ومع هذا قد استعاذ يوسف عليه السلام احكى الله تعالى عنه من قوله تعالى: {قَالَ مَعَاذَ الله إِنَّهُ رَبّى أَحْسَنَ مَثْوَاىَّ} [يوسف: 23] فدعوى أن الاستعاذة تكذب التهييج والميل الطبيعي كذب والقول بأنه يأبى ذلك مقام بيان آثار القدرة الخارقة للعادة ليس بشيء لأن خلق الإنسان من ماء واحد آثار القدرة الخارقة للعادة أيضًا.
والأسباب في هذا المقام ليست رفوضة بالكلية كما يرشد إلى ذلك قصة يحيى عليه السلام. على أنه قد يدعى أن خلق شيء لا من شيء أصلًا محال فلا يكون من مراتب القدرة ومادة الجعل الإبداعي الأعيان الثابتة وهي قديمة اه، ولا يخلو عن بحث، وما ذكرناه في التعليل أسلم من القال والقيل فتدبر، ونصب {بَشَرًا} [مريم: 17] على الحالية المقدرة أو التميزي، وقيل على المفعولية بتضمين تمثل معنى اتخذ، واستشكل أمر هذا التمثل بأن جبريل عليه السلام شخص عظيم الجثة حسا نطقت به الأخبار فمتى صار في مقدار جثة الإنسان يلزم أن لا يبقى جبريل أن تساقطت الأجزاء الزائدة على جثة الإنسان وأن تتداخل الأجزاء إن لم يذهب شيء وهو محال. وأيضًا لو جاز التمثل ارتفع الوثوق وامتنع القطع بأن هذا الشخص الذي يرى الآن هو زيد الذي رئى أمس لاحتمال التمثل، وأيضًا لو جاز التمثل بصورة الإنسان فلم لا يجوز تمثله بصورة أخرى غير صورة الإنسان، ومن ذلك البعوض ونحوه، ومعلوم أن كل مذهب يجر إلى ذلك فهو باطل، وأيضًا لو جاز ذلك ارتفع الوثوق بالخبر المتواتر كخبر مقاتلة النبي عليه الصلاة والسلام يوم بدر لجواز أن يكون المقاتل المتمثل به.
وأجيب عن الأول بأنه لا يمتنع أن يكون لجبريل عليه السلام أجزاء أصلية قليلة وأجزاء فاضلة فبالأجزاء الأصلية يكون متمكنًا من التمثل بشرًا هذا عند القائلين بأنه جسم، وأما عند القائلين بأنه روحاني فلا استبعاد في أن يتدرع تارة بالهيكل العظيم وأخرى بالهيكل الصغري. وعن الثاني بأنه مشترك الإلزام بين الكل فإن من اعترف بالصانع القادر يلزمه ذلك أيضًا إذ يجوز أن يخلق سبحانه مثل زيد مثلًا ومع هذا الجواز يرتفع الوثوق ويمتنع القطع على طرز ما تقدم. وكذا من لم يعترف، وأسند الحوادث إلى الاتصالات والتشكلات للفلكية يلزمه ذلك لجواز حدوث اتصال يقتضي حدوث مثل ذلك وحينئذ يمتنع القطع أيضًا، ولعله لما كان مثل ذلك نادرًا لم يلزم منه قدح في العلوم العادية المستندة إلى الإحساس فلا يلزم الشك في أن زيدًا الذي نشاهده الآن هو الذي شاهدناه بالأمس.
وأجيب عن الثالث بأن أصل التجويز قائم في العقل وإنما عرف فساده بدلائل السمع. وهو الجواب عن الرابع كذا قال الإمام الرازي وعندي أن مسألة التمثل على القول بالجسمية مما ينبغي تفويض الأمر فيها إلى علام الغليوب ولا سبيل للعقل إلى الجزم فيها بشيء تنشرح له القلوب. وإنما ذكرته تعالى بعنوان الرحمانية تذكيرًا لمن رأته بالرحمة ليرحم ضعفها وعجزها عن دفعه أو مبالغة للعياذة به تعالى واستجلابًا لآثار الرحمة الخاصة التي هي العصمة مما دهمها. وما قيل من أن ذلك تذكير لمن رأت بالجزاء لينزجر فإنه يقال يا رحمن الآخرة ليس بشيء لأنه ورد رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما {إِن كُنتَ تَقِيًّا} شرط جوابه محذوف ثقة بدلالة السياق عليه أي إن كان يرجى منك أن تتقي الله تعالى وتخشاه وتحتفل بالاستعاذة به فإني عائذة به منك كذا قدره الزمخشري.
وفي الكشف أنه أشار إلى أن وجه هذا الشرط مع أن الاستعاذة بالرحمن إن لم يكن تقيأ أولى أن أثر الاستجارة بالله تعالى أعني مكافته وأمنها منه إنما يتم ويظهر بالنسبة إلى المتقى، وفيه دلالة على أن التقوى مما تقتضي للمستعيذ بالله تعالى حق الذمام والمحافظة وعلى عظم مكان التقوى حيث جعلت شرطًا للاستعاذة لا تتم دونها وقال: إن كان يرجى إظهارًا لمعنى أن وإنها إنما أوثرت دلالة على أن رجاء التقوى كان فضلًا عن العلم بها.
والحاصل أن التقوى لم تجعل شرط الاشتعاذة بل شرط مكافته وأمنها منه وكنت عن ذلك بالاستعاذة بالله تعالى حثًا له على المكافة بألطف وجه وأبلغه وإن من تعرض للمستعيذ به فقد تعرض لعظيم سخطه انتهى.
وقدر الزجاج إن كنت تقيًا فتتعظ بتعويذي، والأولى عليه تتعظ بإسقاط الفاء لأن المضارع الواقع جوابًا لا يقترن بالفاء فيحتاج إلى جعله مرفوعًا بتقدير مبتدأ، وقدر بعضهم فاذهب عني وبعضهم فلا تتعرض بي وقيل إنها أرادت إن كنت تقيًا متورعًا فإني أعوذ منك فكيف إذا لم تكن كذلك وكأنه أراد أنها استعاذت بهذا الشرط ليعلم استعاذتها بما يقابله من باب أولى، وقال الشهاب: الظاهر أن إن على هذا القول وصلية وفي مجيئها بدون الواو كلام، وذكر أن الجملة على هذا حالية والمقصود بها الالتجاء إلى الله تعالى من شره لا حثه على الانزجار وقيل نافية، والجملة استئناف في موضع التعليل أي ما كنت تقيًا متورعًا بحضورك عندي وانفرادك بي وهو خلاف الظاهر، وأيًا كان فالتقى وصف من التقوى، وقول من قال: إنه اسم رجل صالح أو طالح ليس بسديد.